recent
أخبار ساخنة

محاورة النفس وانطباعات ذاتية


انتابني شيء من القلق النفسي الذي وقع أثره على حالتي وغير مظهري، وقفت متأملاً أدقق كثيراً في حالي وأقول لعلها تكون بداية الشيخوخة، إنها حياة أخرى كما يقولون، العمر الثالث، بداية النهاية، بداية العد العكسي للحياة، لقد تقدم عمري وأشرف على الستين، إنها مرحلة إقبالي على سن التقاعد، المرحلة الأخيرة التي تشغل بال الإنسان المتقاعد، المتقاعد عبارة عن كلمة من مقطعين، "مت قاعد"، إنه يوم محدد حكم فيه على الإنسان الموظف بتاريخ تنتهي فيه صلاحيته، فيستبدل بشخص آخر يتولى مكانه ليسايرالحياة من جديد، وهكذا يأتي من يأتي، ويرحل من يرحل، إنها مرحلة بداية لحياة جديدة، تتضارب الأفكار والهواجس في مخيلتي، أصبحت منشغلا بالتفكير في مرحلة انتقالي إلى عالم جديد، عالم يتطلب تخطيطاً مسبقاً للمرحلة المستقبلية التي يكتنفها الغموض، لذا قلت في نفسي لا بد من إيجاد حل للتخلص من هذا القلق الذي  اعتراني، حينها قررت بأني سأغير هذا المكان وأنتقل إلى مدينة العيون الجنوبية للترويح عن النفس وإدخال السرور عليها، وصلة الرحم مع من هناك من أقاربي وأحبابي، هكذا إذن سافرت إليها واكتشفت موقعها وجمال بنيتها التحتية ذات مناخ صحراوي معتدل، وكنت أتصور خلاف ذلك، أخيراً قد تحققت أمنيتي وانشرح صدري وقلت بأن السفر من الوسائل المهمة لتوسيع المدارك، لقد حصلت على فضاء ومناخ جديد أراح بالي وهدأ نفسي، إنه فضاء مهم وملائم لمحاورة النفس والتفكير في المستقبل.       




في إحدى الليالي بمدينة العيون الصحراء المغربية، إنها ليلة ليست كباقي الليالي، ليلة متموجة برياح  رملية،  صفير زفزفة رياحها يسمع من حين لآخر كأنه أنغام سمفونية تصدر من آلات موسيقية، إنه فعلاً أوركسترا شكلته الطبيعة السمحاء، لم يغمض لي جفن، انتابني شيء من الدهشة، لست أدري ما الذي يبعثني على القلق والحيرة من أمري وكياني، وحيداً في غرفتي، بعيداً عن الأنظار، مستلقياً على ظهري، عيناي شاخصة لا تفارق سقف البيت، محملقة في أرجائه، تريد أن تخترق سمكه، تريد أن تكتشف ما ورائه، إنه منظور في مخيلتي، يسبح في أعماق قلبي، ثاقب رؤيته، يشعرني من حين لآخر بإحساس غريب، بدأت أحاور وأسأل نفسي أين أنا ومن أنا؟، هل أنا هو أنا أم أنا لست أنا؟ أحياناً يراودني الشك في معرفة من أنا؟ أحياناً تلعب بي بعض المواقف وأحداث الزمن، تأخذني بعيداً عن نفسي إلى نفس لا أعرفها أو ربما إلى حقيقتي التي أجهلها، فأقف متفاجئاً أمام نفسي هل هذا هو أنا؟ أين هي مبادئي؟ أين هي قناعاتي؟ هل كانت أوهاماً؟ هل أنا كيان متغير غير ثابت؟ كثر السؤال واختلط الأمر علي، وأصبحت تائهاً في صحراء شاسعة لا أعرف شرقها من غربها، ولا أدري أي وجهة أقصدها.

أحاور نفسي التي أدارت عني وجهها، أردت أن أعرف منها أين أنا ومن أنا؟ لكنها لم تعطيني أذناً صاغية، أتفاجأ حينما أسأل عن نفسي من أنا؟ أحياناً سؤال يفضي بي إلى سؤال آخر، أنحدر من ذكرياتي الماضية عساني أجد جواباً يشفي غليلي لأسئلتي الكثيرة التي لا تنتهي من أنا؟ فكل يوم أرى أن جوابي تغير شيئاً ما، وتعريفي لنفسي قد طرأ عليه تغيير، لأنها تمادت في الصمت الرهيب، قلت لها لماذا هذا الصمت القاتل؟ تركتها برهة لعلها تفكر في تطلعاتها، لأن الصمت أبلغ من الكلام، عندما تتيه أفكاري وأحاول جمع شتاتها، لكن كل عناصرها تطايرت واختفت مع مر الزمان، لم تستطع نفسي إدراكها، أنظر إلى نفسي كأنني كيان بلا بنيان، كيان بلا عنوان، تتقاذفني أفكاري أحياناً كأمواج البحر المتلاطمة، أمواج بين الماضي والحاضر والمستقبل، بين تفاؤل وحنين إلى الماضي البعيد، بين طموح ورغبة وقمعي لذاتي، بين دموع الفرح والثقة بالله، أملي بأن ساعة الإنفراج قادمة.

يقشعر قلبي أحياناً فأشعر بالخفقان الشديد، قلبي يريدني أن ألفه بغطاء الصبر، غطاء الصبر يجعلني أتحمل شدة البرد النفسي والألم الجسدي، أثابر مع ذاتي وأتمسك بالأمل، تدمع عيناي دون إرادتي، أسرع بتجفيفها حتى لا تغرقني في متاهات النفس، أخاف على مستقبلي من هواجس تتكرر في رأسي، أنفض عن روحي غباره، أغسل وجهي وأبتسم لذاتي ولمن حولي، أغرس روح الأمل في نفسي، أتمنى دائماً أن تلمع عيناي بالفرح والسرور، وأزرع روح الأمل بدلاً من دموع لا أطيقها، أنتقل وأتنفس هواءً  جديداً ينعشني ويفتح مشاعر قلبي، أجلس في سكون بعيداً عن ضجيج البشر، أرتب أفكاري وأحلامي، أقول كبرت وأحلامي لم تكبر معي، كبرت وعانيت الكثير، كبرت وسلكت سبلاً كثيرة لغاية واحدة، في كل مرة أقول هذا هو طريقي هذا هو الأنفع، وعندما لا يتحقق هدفي ويغيب عني أعود لأدراجي وأقول لا أحب الآفلين، أنعم بحرارة الأمل تبعث الدفء في قلبي، أمهد لنفسي طريقاً تسير عليه أحلامي حتى تصل في أمان منتهاها.

روحي هي أنا وجسدي هو صورتي، أفكاري تتغير مع تغير الزمان، تترصد بي أفكاري كأنها ترغب بقتالي، ولا أدري لماذا تطاردني؟ طاردتني في بعض الأحيان عدة أفكار، لكن هناك فكرة، قد يبدو أنها لا تستحق نعتها بالفكرة، لكني وجدتها هي روح الأفكار وعصارتها، ألا وهي مراجعة النفس ومحاسبتها، مراجعتها لتصحيح مسارها، ولتواصل السير قدماً بصفة جدية، مع زرع روح الأمل وبدون التفاف إلى الوراء، أحياناً أنظر إلى الغد وكأنه صورة غير واضحة، تعجز عيناي عن رؤيتها بوضوح، كأنها خطوط لا يراها من يرغب في رؤيتها، عندما يقف قلمي عاجزاً عن وصف الكلمات، وعندما يسير الألم دمعات ودمعات...، فماذا تعني الآهات؟...، لم يصفني قلمي، ولم يعبر عني، ولم أجد لروحي مكانا يسكنه جسدي الضعيف الذي ألمت به أحداث الزمان، كبر سني، ووهن عظمي، واشتعل رأسي شيباً، وأصبح الجسد ليس كعهده سابقاً، عرفت أن ضريبة الحياة قد اقترب أوانها، ما أصعب الأيام الأخيرة في عمر الإنسان، عندما أنظر إلى خطوط يدي وقسمات وجهي، أقول إنها تضمر وتخفي عني أشياءً قد لا تسرني، أراجع نفسي وأعود لأستغفر الله عن كل شيء صدر مني، أنظر إلى من حولي وأقول ما زال الوقت مبكراً، فكل شيء يسير بأمر الله، يتصرف في ملكه وقت ما يشاء، وكيف ما يشاء، سبحانه، إن الحياة أخذ وعطاء وابتلاء وامتحان، أعتقد بأن لكل أمر أوانه، وأن لكل حدث زمانه، وأن لكل قول مكانه.

إنتهى وقت طفولتي وشبابي، لكن شيخوختي ما زلت أستمتع بها بفضل الله وإحسانه، أستمتع بها بكل ما أملك من قوة التفكير التي تجعلني أنعم بالراحة والإرتياح، أطرح عدة أسئلة لا تنتهي إلى جواب شاف ومقنع، أحياناً يرتابني شك في ذاتي عندما أجالس أشخاصا، أسأل نفسي هل أنا شخص مرحب به كهؤلاء أم لا؟ أم أنك يا نفسي تخترقين المجلس بهذه الحالة ولست بتلك الوسامة مثلهم؟ أنت يا نفسي الضعيفة هل لك من مكان؟ إليك عني يا نفسي الضعيفة من هذه الأوهام، سأبحث عن أخرى في دهاليز كياني، عقلي، إحساسي ووجداني، سأبحث عن أخرى قوية لتحل محلك وتساير الحياة بطريقة عادية، هذا هو ضعف الإنسان، فمصيره إلى الزوال، الدنيا مدبرة والآخرة مقبلة، فاللقاء محتوم لا محالة، إنها الحياة مهما ضربتنا أمواجها، قد تجرك إلى جزيرة بر الأمان حسب تدبيرك لها، تكون ناجياً وسعيداً، أو تكون عكس ذلك والعياذ بالله، تهوي بك في أعماق مظلمة سحيقة لا حد لها، وتصير كائناً تائهاً مصيره مجهول.

في بحر الدنيا، هناك نجاحات وإخفاقات، أسافر بجسدي وعقلي وفقاً لمقتضيات العمل ومتطلبات الأسرة، أسافر كذلك بروحي وخيالي إلى أبعد حدود لا نهاية لها، أفكار وأفكار تجول في خاطري ومخيلتي، تتسارع وتتسابق لتخرج وتحقق وجودها ومبتغاها، في كل مرة أحس بالحاجة إلى تفريغ أفكار قديمة لتحل محلها أفكار جديدة، أحس وأشعر لأنني كائن موجود على هذا الكوكب، تعلمت أشياء عدة وجهلت أخرى كثيرة، هذا هو حال الإنسان، تتسارع الأحداث في هذا الكون الشاسع أللاّمتناهي، إنها أحداث متسلسلة مع مر الزمان، تتغير مع زمان حياة الإنسان، أجد نفسي دائماً في تساؤل، من أنا وأين أنا؟ وهل يكفي أن أكون على وعي لمعرفة هنا نفسي؟ وأقول، أعرف نفسي بنفسي، لأن وعيي ليس معقداً، فوعيي مرتبط بذاكرتي مع معرفتي، فإني إِذن كائن حي يبحث باستمرار عن نفسه، يفحص ويتأمل أحوال وجوده في كل لحظة، وقد اكتشفت أفكاري داخل ذاتي.

حيرتني نفسي أحياناً حينما سألتني بدورها بعدما أجبت على أسئلتها، ماذا فعلت بي أحداث الحياة؟ ترددت الإجابة في أعماق قلبي ووجداني، وعشت ساعات منعزلاً، منفرداً وحائراً، لا يسمعني فيها إلا آذاني، وشريط ذكرياتي يدور دوماً لتسجيل أحداث عمري، استرجعت من خلاله ألوان حياتي وصراعي في هذا الكون، فأنا لم أحيا الحياة التي طالما تمنيتها في صغري، وقد كان بالإمكان أن أحياها، فكم من فرص أهدرتها وذهبت سُدًى لم أستغلها، وكم من أمنيات لم أتمكن من تحقيقها، لكني كنت متفائلاً ولم أكن متشائماً، وكنت أظن لحظتها أن العمل الدؤوب والإنتظار مع التفاؤل سيأتي بالأفضل، ولمَ لا؟ وقد يتحقق ذلك ببناء المفاهيم الصالحة، بناؤها على أسس متينة ولو طال وقتها، إنه دعوة للتفاؤل مع العمل والإستمرار في الجهد لتخطي كل العقبات العارضة في الطريق مهما كانت.

تستوقفني أحياناً لحظات ثم لحظات، تجعلني أغمض عيناي لأجول في بحر مخيلتي، تأخذني إلى ذلك العالم المنسي، كلمات ترددت كثيراً في ذاكرتي، منقوشة بأدق تفاصيلها، لا تفارقني منذ صغري، صغيراً تجرعت مرارة الحرمان والغربة، حرماني من أمي الحنونة التي فقدتها صغيراً، رحيلها إلى دار البقاء في طفولتي ترك بصمته على أفكاري، وحدتي وغربتي خارج مقر أسرتي تعود لأسباب قاهرة، إنها مرحلة صعبة لازمتني منذ صغري وما زالت تلازمني، جعلت روحي قوة تنسجم مع بيئتها وقسوتها، لم أذق يوماً طعم ولذة الطفولة التي عاشها أقراني، تلك الطفولة المغتصبة المختبئة في عتمة ذاكرتي، أعاني كثيراً من الخوف والقلق وما يعتري قلبي الصغير من مشاعر الحزن والألم، تلك الظروف القاسية جعلتني أطوي المراحل التي تفصل بين صغري وكبري، أدَع طفولتي جانباً وأتحمل مسؤولية الكبار في سن مبكرة، لتطبع السنين بصمتها على ملامح وجهي، أشعر بأني شخص مسؤول عن نفسه، مدركاً بأن كل ما يحصل في حياتي هو نتيجة قراراتي، لن أنسى من كان يعاملني بالخير، ولن أنسى كذلك من كان يعاملني بالسوء، ففي كلتا الحالتين هناك بصمة لن أنساها أبداً ما دمت حياً، أستشيط غضباً على من كان يتمادى بالسوء إلي، ويفيض الكيل بي منهم ومن أفعالهم، لكني لم أشعر يوماً بالإنتقام منهم، صبري ونجاحي في حياتي هو سر إنتقامي.

أعود وأقول يا نفسي لديك شعور دفين منذ زمان طفولتك، لقد أصابتك معضلة اليتم في بداية حياتك المبكرة، حرمانك من عاطفة الأم والمجتمع أدى بك إلى صراعات داخلية وخارجية، تشعرين بالحرمان من أشياء كثيرة يتمتع بها أقرانك من دونك، تنظرين إلى من حولك كأنك وحيدة وفريدة من نوعك، نظرة الغير إليك كأنك كيان غريب قذفته أمواج الدنيا من بعيد، عانيت كثيراً من قساوة الطبيعة والمجتمع، عانيت كثيراً من فقدانك لوسائل أخرى معيشية وضرورية لحياتك، ظلت كل مشاعر الحرمان والغضب مكبوتة في أعماقك، تشعرين بالوحدة والحسرة، أنت فعلا تجرعت تلك المواقف الصعبة، لكن الوحدة علمتك كل شيء، لقد تعلمت ما يكفيك وما يرضيك، تعلمت بأن عمر الإنسان على وجه الأرض يمر بسرعة، ويحمل معه صدى ذكريات جميلة ورقيقة، وصور أحداث أليمة وموجعة، لا يعلم أن حياته تبقى رهينة لأيام معدودة، تشكل إستثناءً في مسيرته، ويمكنها أن تلخص محطات عمره الأساسية، الماضي ذكريات والحاضر أمنيات، وعنده الحنين إلى الماضي، يتمنى لو أن باستطاعته العودة إليه، إلى تلك الأيام الجميلة التي عاشها في كنف أسرته الراعية بكل دفئ وحنان وتلبية لرغباته، وفي منطق إستعادة اللحظات الجميلة لذكرياته، لا بد أن يمر بها كل شخص، يحملها معه في مذكرات سجله الحياتي حتى اليوم الأخير.


أستسمحك يا نفسي على كل ذنب اقترفته في حقك، وعلى معاملتي لك بالسوء، ولطالما أغضبتك كثيراً، لقد تعمدت أحياناً أن أجبرك على تصغير عقلي وتظاهري بالغباء، إني جعلتك صغيرة بين الكبار، وأهنتك أمام أقرانك، لكن ذلك لـيس لضعف شخصيتي، وإنما تواضعا لمن كان في المجلس معي، أنا آسف عن كل ذنب اقترفته بحقك، وعن كل معصية أوجبتك عليها، وعن كل حماقة ارتكبتها بحقك، وعن كل إهانة أسندتها إليك، إنه بسبب تسرعي وتهاوني، ومن غفلتي وتهوري، ولكني أخيراً أهنئك على كل إنجاز حققته في مسيرتك، وعلى كل عمل خير أقدمت عليه، وعلى اكتساب مكانة طيبة بين قلوب الآخرين.


يا نفسي أنت ضيف زمانك، فالوقت وقتان، وقت لك، ووقت عليك، الدهر يومان يوم لك ويوم عليك، إذا كان عليك فاصبري، وإذا كان لك فأحسني استغلاله، انظري إلى أمامك وثبتي خطاك، عليك بإيجابياتك، واجتنبي سلبياتك، فاعلمي أن آلة العد تعمل ليل نهار، مضبوطة لا تعرف التوقف، إلتزمي يا نفسي بالهدوء والإرتياح مهما كانت الضغوط حولك ، حاولي السيطرة على أشياء من حولك بكيفية سليمة، تخلصي من قائمة أشياء سلبية لا تفيدك في شيئ، تجنبي كل من يريد إزعاجك، إستمتعي بوقتك على أحسن حال، إبتعدي عن كل ما يقلقك في حياتك، التجارب والعبر المستخلصة في حياتي علمتني أن أحاسب نفسي وأعاتبها عندما تحيد عن الصواب، فالتجارب أحيانا تمنحي القوة مهما خرجت مهزوما من إحداها، علمتني أن أعتمد على نفسي وأصرف أموري على قدر طاقتي، علمتني أن أعيش في هدوء وأتماسك عند غضبي، علمتني أن الراحة النفسية والرضى بما كتبه الله هي السعادة المرجوة في آخرتي.

يأتي الإنسان إلى هذا العالم الدنيوي، يحقق وجوده أول ظهوره يوم مولده، ينشأ ويترعرع مع آماله وأحلامه، متعلقا بالدنيا لا يريد فراقها، ولا يرضى بغيرها، يجري ورائها كأنها أمه التي ولدته وحضنته، ويبقى على نفس الحال سنين وأياما معدودة، بعد أن يبلغ من عمره ما بلغ، فتأكل الأيام المصحوبة بأحداث الزمان قواه العقلية والجسدية، يتعرض لأسباب يتعطل معها حجم نتاجه، وتتدنى قدرته وحيويته، ويثقل الزمان ظهره، فيقعد ملازما الأرض التي كبر عليها، لا يقوى على الحركة، مرغما عن السعي إلى آماله والركوض خلف أحلامه، وفي الأخير يضع عصا الترحال مستسلما لأرض الواقع، العمر يمضي وأحلامه كاملة لم تتحقق، كبر وكبرت معه همومه وأهدافه، مرت السنوات سريعا دون أن يشعر بها، إلا أنه يجب عليه أن يسير مع الواقع، وأن يجاري الأحداث والمتغيرات من حوله كيف ما كانت، وهنا أفكر مليا وأقول بأن الحياة لا تنتهي بالموت،  وإنما الموت هو إنتقال إلى الحياة البرزخية، وفي الحقيقة أنه بالموت يبدأ كل شيء، إن الحياة التي ينالها الإنسان في آخرته هي حياة أبدية، مع العلم بأن الأبدية تعني ترتيب الأمور وإصلاح ما فسد، أي إصلاح الذات والرجوع إلى الخالق برصيد مهم من الحسنات قبل فوات الأوان.

إذا أراد الإنسان البحث عن السعادة، فالسعادة تتجلى بالعمل وفق الهدف المقصود والغاية المنشودة، إنما خلقنا الله في هذه الدنيا لتطبيق ما أمرنا الله به، واجتناب ما نهانا عنه لنزداد معرفة حقيقية بخالقنا، فإن معرفة الله تنساب مع الكمال النفسي، من عرف نفسه فقد عرف ربه، لا تأتي هذه المعرفة إلا بعبادة الله حق العبادة، وأن ما يصيب الإنسان في حياته من أحداث وأسقام إنما هو لتطهيره وتكفير ذنوبه، الدنيا دار الإبتلاءات، وقاعة الإمتحانات، فيها يكرم المرء أو يهان، الإبتلاء هو جزء لا يتجزأ من حياتنا الدنيوية، كل واحد منا له أقداره وأحواله، عليه أن يجتاز امتحانه بكل هدوء وصبر، في هذه الدنيا منح ومحن، أفراح ومسرات، هموم وأحزان، آمال وآلام، فدوام الحال من المحال، الصفو يعقبه الكدر، الفرح مشوب بالغموم والمتاعب، الضحك يتبعه البكاء، هكذا هي حال الدنيا، هذه أحوالنا وأحوالها، وليس لنا إلا الإخلاص والصبر.

علّمتني نفسي أن أقابل الخير بالخير، وأن أقابل الشر بالخير، وأن أقابل الإحسان بالإحسان، وأن أقابل الإساءة بالإحسان، وأن أقابل الشدة بالصبر، علّمتني نفسي أن أجعل قلبي بيتاً للمودة والتّسامح، علّمتني نفسي أن أجعل الأمل مصباحاً ينير قلبي، يرافقني في زماني ومكاني، يجعلني أحياناً أخاطب نفسي داخل ذاتي، أخاطبها لأقدم نصيحة لها، أنت يا نفسي لا تنظرين بوجه واحد للحياة، إستقبلي الجديد ولا تتمسكي بالقديم، إستقبلي الشعور كما هو، لا تتجاهلي أو تحاولين تغييره، هي حياتك أنت فقط، أنت يا نفسي ظهرت في هذه الحياة بجسد واحد، قد تقومين وحدك برحلة خاصة بك، ستغادرين الحياة وحدك دون جسدك، تعلمي يا نفسي أن الزمان يسير بك إلى عالم آخر، يا نفسي انظري وتمعني في الواقع الحالي الذي نعيش فيه، إنه واقع مُرّ، واقع سيطرت عليه الهموم والهواجس والمخاوف والأحزان، واقع تفشت فيه الأمراض والكوارث والحروب، إنها آفات خطيرة تعصف بالخلائق عصفاً، إنه بداية عصر الدمار والخراب، تغير الزمان وتبدلت الأحوال، تغير سلوك الإنسان الذي تجاوز حدود الله، إنه يُعجل أمر ربه، أصبح كل شيء خارج عن مكانه الطبيعي، إنها علامة إنذارإِلـٰهي لمستقبل مجهول، ولا حول ولا قوة الا بالله العلي العظيم.

ما أحوجنا إلى أيام الزمان الماضي، زمان يمتاز ببساطة الحياة وبساطة أهلها، زمان يسود فيه العيش البسيط والعفاف مع راحة البال والهدوء والطمأنينة، زمان مجتمعه متماسك إلى حد بعيد بتطبيق أعرافه، زمان النخوة والشهامة والتسامح والعفو، زمان الحشمة والوقار، زمان الحياء والمروءة والإخلاص، زمان التسامح والتصالح والتضامن والتعايش الإجتماعي السلمي، زمان أعطى للإنسان مكانته وللأشياء قيمتها رغم قلتها وندرتها وبساطتها، إنه كان زمناً جميلاً يُعبرعن الحياة الكريمة، عشنا في كنف الزمان الماضي كنزاً لا يفنى من الرضا بما قدره الله وقسمه، مطمئنين سعداء، إنه زمن جميل بلا جفاف ولا تصحر،  بلا حروب ولا نزاعات، بلا كوارث ولا أمراض، الكل كان فيما مضى يعيش حياة بسيطة هادئة، تعززت فيه أواصر الروابط الإجتماعية،  يسودها جو مفعم بالمودة والمحبة والتعاون، كلما أمعنت النظر في زمننا الماضي المفعم بالهدوء والسكينة ازددت حسرة علي حاضرنا المضطرب، وخوفاً على مستقبلنا الذي يكتنفه الغموض، حسرةً على كل شيء، وخوفاً من كل شيء، حسرةً وخوفاً طالتا كل شيء، يا حسرتاه!، شتان بين الزمنين.

أخيراً بعد تضارب الأفكار واستخلاص العبر، خلوت بنفسي ساعة، وأجبت على أسئلتها وقلت لها أنا نفسك، وأنت أنا، وأنا أنت، ليس هناك إنفصام ولا إزدواجية، أظن بك خيراً، وماذا تريدين مني بالضبط؟ كل ما تشعرين به عادي وطبيعي، عليك التوكل على الله والإعتماد على الفكر السليم المؤدي إلى الفرح والسعادة، واجتنبي الفكر السيئ المؤدي إلى الحزن، الغضب، الحيرة، القلق، اليأس والشعور بالضيق، تلك الحالات التي مآلها الإنحراف، الضياع، اليأس، الإحباط والفشل، يا نفسي كفاك من هذه الهواجس والأسئلة التافهة التي لا تفضي إلى شيء مجدي، لا تستسلمي لوساوس الشيطان، ألست أنت مثلك مثل سائر المخلوقات البشرية؟ عليك بتقوى الله حق تقاته والثقة به والتوكل عليه، إنه أوفى عمل وأزكى أمل لتنالي منزلة النفس المطمئنة بعد رضا الله، وتكونين سعيدة في دار البقاء إن شاء الله، هذا هو حال حياتك اليومية التي تتخللها مجموعة من أفكار وصور ومشاعر.

تعبت مع نفسي وأشعر أحياناً بعدم الرضا عنها، أقول يا نفسي أنت بطبعك معرضة للخطأ كالنفوس الأخرى، كلكن مذنبات، كلكن مخطئات، تلتفتْن تارة إلى اليمين وتارة إلى الشمال، تسيطر عليكن الغفلة، تقعن في المعصية، ولا بد أن يقع منكن الخطأ، فلستن بمعصومات، اسلكي يا نفسي طريق التوبة، طريق النجاة قبل السفر وحبس الألسن، أعود مرات عديدة لأحاسب نفسي وأعاتبها، أخاطبها بلغة حازمة وأقول لها عليك يا نفسي أن تتخلى عن أحلامك التي لا تفيدك في شيء، وأن طريقك لم يكن دوماً كما تريدين، وليس كل ما تصبو إليه ستدركيه، فاغلقي يا نفسي التائهة كل ما هو عالق، إنفضي غبار النسيان على أحلامك القديمة، واكتبي بتفاؤل أحلامك الجديدة، وأقول أخيراً ما أنا الا بشر أخضع لقسمة الله وحده وأقداره التي يجب علي أن أؤمن بها، فأحلامي إنما هي مرحلة عمرية تشيخ وتكبر معي لأني بشر، نفسي تحتاج إلى من يكبح جماحها ويضبطها وعدم تركها للإنصياع لهواها، إنها تحتاج إلى عقل سليم يقودها.

وفي النهاية عقلي السليم هو من يهذب نفسي، وقلبي هو مستودع أخلاقي ومشاعري، وهو الذي يضبط سلوكهما، إِذن، فعقلي هو أهم عنصر في ذاتي، وهو الذي يؤهلني في بناء شخصيتي، وهو الذي يقودني إلى حسن تفكيري وتدبري، ليغترف لساني حلاوة قلبي وطيبوبتي، وكما قال أحد شعراء العرب: كل إناء بما فيه ينضح، القلوب أوعية والألسن مغاريف، القلوب كالقدور تغلي بما فيها، وألسنتها مغارفها، فانظر إلى الإنسان حين يتكلم، فإن لسانه يغترف لك ما في قلبه من حلو وحامض وعذب وأجاج، ويبين لك طعم قلبه اغتراف لسانه، فالإنسان كالإناء إذا امتلأ قلبه بأفعال حسنة فلا يمكن إلا أن يفيض بالإيجابيات، وإذا كان نقيض ذلك وامتلأ قلبه بأفعال سيئة فلا يمكن إلا أن يفيض بالسلبيات، عقل الإنسان يستره لسانه، لأن العقول كالقدور والألسنة أغطيتها إن تحركت كشفت ما فيها، رأس الحكمة عقل اللسان، المرء مخبوء تحت لسانه، فإذا نطق ظهر، الحياء خلق حسن وعادة حميدة تمنع صاحبها من القول الذي لا يحبه الله ولا يرضاه، من أمات شهوته فقد أحيا مروءته ونور طريقه نحو المقصد الصحيح. وفقني الله وإياكم لما فيه الخير والصلاح في ديننا ودنيانا وآخرتنا، وأن يجعلنا من الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم. (م. ناجي)

قال أحد حكماء العرب:
اغسل قلبك قبل جسدك، ولسانك قبل يديك، وأحسن الظن في الناس. 
الدنيا مدرسة، مديرها الزمن، أساتذتها القيم، وتلاميذها البشر.
نتقابل غرباء، ونعيش أصدقاء، ومهما عشنا فيها لا يبقى إلا الوفاء.
الضمير خير قائد، وحسن الخلق خير قرين، العقل خير صاحب، والأدب خير ميراث.

يقول الله سبحانه وتعالى في كتابه الكريم:
«قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلَىٰ شَاكِلَتِهِ فَرَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَنْ هُوَ أَهْدَىٰ سَبِيلًا». 
«وَمِنَ النَّاسِ مَن يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَىٰ مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ». 
«هَلْ أَتَىٰ عَلَى الْإِنسَانِ حِينٌ مِّنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُن شَيْئًا مَّذْكُورًا».
«قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلَاقِيكُمْ ۖ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَىٰ عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ». صدق الله العظيم.




الحياة الدنيا في نظر نوح عليه السلام:
قيل لنوح عليه السلام حينما حضرته الوفاة، كيف رأيت الحياة بعد هذا العمر الطويل؟ فقال: رأيت كأني دخلت بيتا له بابان، دخلت من أحدهما وخرجت من الآخر، وقد عاش ألف سنة إلا خمسين عاما كما ورد في القرآن الكريم، إِذَن، فالإنسان مهما عاش فحياته قصيرة جداً.

أدلي برأيي وأقول:
عش ما شئت فإنـك راحـــــــــــل☼فنعشك أينما ارتحلت لك تابع
لا تنسـى ذكــر الله كــــلامــــــه☼ فكـل شيء قريـب زوالــــــه
واعلم بأن يوماً عند ربك حسابــه☼كألـف سنة دنيويــاً تعــــداده

هكذا تمر بنا أيام الدنيا ونحن غافلون، في بحرها العميق نسير بدون عنوان، تتقاذفنا أمواجها ولا ندري أين مصيرنا، يتغذى زمنها من قوانا الجسمانية والعقلية ولا نشعر، نقترب من ترابها غير مبالين، حياتنا دقائق وثواني معدودة، الموت معنا أينما سرنا، الموت أمر لا مفر منه مهما طال بنا الزمان أو قصر. اللهم ارزقنا حسن الخاتمة آمين. 

للا نسان أربعة أعداء كما يقال:
إبليس والدنيا والنفس والهوى، وكيف النجاة وكلهم أعداؤه.
النفس هي العدو الحقيقي للانسان، إنها القنبلة الموقوتة واللغم الموجود بداخله.

تنقسم النفس البشرية إلى سبعة أقسام كما قال أحد الفقهاء:
النفس الأمارة بالسوء وهي ذات أفعال ظلمانية.
النفس اللوامة وهي كثيرة اللوم لصاحبها.
النفس ألملهمة وهي التي ألهمت فجورها وتقواها.
النفس الراضية كثيرة الرضا بالقضاء والتسليم. 
النفس المرضية صاحبها لا يرى صدور الأفعال إلا من الله تعالى. 
النفس المطمئنة التي مقامها مبدأ الكمال. 
النفس الكاملة مقامها مقام تجليات الأسماء والصفات.

النفس الهادئة تكون مطمئنة ومستريحة، النفس المضطربة تكون خلاف ذلك، ولترقى إلى مرتبة ومنزلة حسنة ليكون لها قدم صدق عند ربها أي لتكون لها سابقة ومنزلة رفيعة عند ربها، يجب تهذيبها وتطهيرها من الذنوب والمعاصي، يجب تزكيتها بالأخلاق الحميدة وإخلاص العمل لله سبحانه وتعالى لتنال رضا ربها. اللهم ارزقنا النفس المرضية التي رضي الله عنها كما قال في كتابه الكريم: «يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةَ ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً»، آمين والحمد لله رب العالمين.(م. ناجي)

محاورة الذات هي مراجعة الأفكار وتصحيح المواقف.
google-playkhamsatmostaqltradent